لابد للحق من قوة تحميه

____________________

الأربعاء، 23 أبريل 2008

مفاوضات (قصة قصيرة)



بقلم: د. أحمد دياب
إنه يوم من أيام الشتاء، السماء ترعد، الريح تعوي، نتف الجليد تنسج ثوبًا رقيقًا يلف الحقل الصغير.

رجل نحيل ذو عينين زائغتين حاسر الرأس مكشوف الساقين، يغوص بقدميه في الطين وسط الحقل ومعه إخوته بين فتى وطفل يقلبون فيما نجى من مخالب الشتاء القارس من شتلات صغيرة.

وقع أقدام ثقيلة تقترب وتقترب، دُب كبير يقتحم الحقل، يدهس الزرع، يفغر فاه، يزمجر ويقفز نحو الرجل وإخوته، الرجل النحيل ترتعد فرائصه ويفر هاربًا.

الاضطراب يسود المكان، الجميع يجري في اتجاهاتٍ مختلفة، والدُّب يطاردهم.
أحد الأولاد يلتقط بعض الحجارة ويرمي بها الدب، الدب يتوقف ويلتقط أنفاسه، يتحسس جراحات متفرقة لكنها خفيفة، يتماسك- رغم الألم- ويبدأ المطاردة من جديد.

ما زالت رحى الكر والفر تدور بين الدب والفريسة، أحد الفتية يجري نحو أحد جوانب الحقل ويحفر في الأرض، يخرج بندقية قديمة، ينفض عنها التراب، ما زال الدب يطارد إخوته.

الفتى ينقض واقفًا أمام الدب واضعًا البندقية في وجهه ويستعد لإطلاق قذيفته.

وقف الدب منهكًا، وقال بلسان معسول ولهجة مداهنة
: "لماذا اللجوء إلى العنف؟ أليس التفاوض أفضل لنا جميعا؟! ها أنا ذا أسمعكم فقولوا مطالبكم وأنا واثق أننا سنصل إلى حل يرضي جميع الأطراف؟

- قال الفتى بلهجة صارمة، وهو يضع أصبعه على الزناد ليطلق قذيفته.
"كيف نصدقك وهذه آثار عدوانك في كل مكان من حقلنا"
نظر الدب إلى الأخ الكبير النحيل، وقد أقبل منهكًا، متقطع الأنفاس، ممتقع اللون وقال: "قل لأخيك ينتظر قليلاً ويُحكِّم لغة العقل، فهو شاب كله حماس، ولكن الموقف يحتاج إلى حكمة، وهذه الحكمة هي رصيدك الكبير أنت بلا منازع، فدعني أتفاهم معك أنت، فأنا واثق أن لدينا قواسم مشتركة ومصالح مشتركة أيضًا...".

حك الأخ الكبير رأسه وشرد قليلاً وقال في نفسه: "أخيرًا وجدت مَن يُقدِّر حكمتي، ويقر بخبرتي، ولكن ماذا أطلب من هذا الدب، ماذا أطلب، ماذا أطلب؟".

- قال الدب قاطعًا حبل أفكار الأخ الكبير.
"أطلب من أخيك أولاً أن يُنحي البندقية جانبًا، ولنجلس أنا وأنت نتحدث ونتفاوض"
تمتم الأخ الكبير "الدب عنده حق، نعم لا بد أولاً أن أثبت أنني صاحب القرار هنا، وأثبت أنني نافذ الكلمة على كل إخوتي، ليقوى موقفي أمام الدب" ثم قال لأخيه بلهجة صارمة "هات هذه البندقية، وتنحَّ أنت وإخوتك جانبًا، أنا سأدير هذا الموقف بحكمة الشيوخ وليس بحماسة الشباب كما قال لك، وسترون ماذا سأحصل لنا جميعًا في النهاية".

- قال الفتى في ذهول "ماذا تقول يا أخانا؟! هل يمكن أن يصدق هذا الدب بعد كل ما فعل، هل يمكن أن يصدق عاقل ما يقول..."

- قال الإخوة الصغار وقد لفتهم الدهشة.
:. لا يمكن أن نصدق هذا الدب، لا يمكن أن نحصل منه على أي خير.. هذا جنون هذا جنون"
- رد الأخ الكبير على إخوته "أتتهمونني بالحمق وقلة العقل، سترون ماذا سأحصل منه" ثم خطف البندقية من يد أخيه وقال لإخوته بلهجة صارمة: "هيا اخرجوا جميعًا من هنا، ودعوني أتفاوض وسوف ترون، هيا اخرجوا جميعًا، هيا".

- الإخوة الصغار يترجون أخاهم.
"احذر يا أخي أرجوك، أنت تُعرِّض نفسك وتعرضنا معك للخطر الجسيم، أرجوك لا تفعل"

- قال الأخ الكبير وهو يدفع إخوته خارج الحقل".
"هيا اخرجوا بسرعة، وانتظروني سوف أخرج عليكم بالبشرى؛ لأني سأطلب منه طلبًا لا يخطر على بال أحد"
قال الدب بلهجة ودودة - "أحسنت أيها الحكيم، الآن أنا وأنت فقط، أطلب ما تريد، ولكن ضع هذه البندقية جانبًا أولاً، واجلس لنتفاوض".

- وضع الأخ الكبير البندقية جانبًا، وأعاد حك رأسه وقال "كما ترى الجو قارس البرودة وطلبي الوحيد هو معطف من الفرو الذي تملكه.

قال الدب بلهجةٍ ساخرة وهو ينظر إلى الرجل نظرةً ماكرة "أهذا كل ما تطلب، أنه طلب بسيط جدًّا، لنجلس على مائدة التفاوض ولنبحث في الأمر"،

مرت لحظات ولحظات، الصمت يُحيط بالمكان، ترى ما هو هذا الحل الذي سيرضي الطرفين، وما هي البشرى التي سيخرج بها الرجل؟! لننظر ما هي نتيجة المفاوضات وما الذي حصل عليه كل منهما.

الدب يمسح على فرو بطنه ويقول: "أنظر، ألم أقل لك إن الأمر بسيط، وأننا سنصل إلى حل يرضي الطرفين ويحل مشكلتي أنا وأنت. ها أنا ذا قد ملأت بطني ولم أعد جائعًا، وها أنت أيضًا قد حصلت على معطفٍ كبير من الفرو يُغطي جسدك كله".
وقف الدب متكاسلاً وقد أثقلته التخمة وأخذ يتمشى في أنحاء الحقل!!
-------------------------------

ليست هناك تعليقات: